Connect with us

Société

ڨابس: مدينة تُجرّ بعنفٍ نحو الفناء

insatpress

Published

on

[simplicity-save-for-later]
مصانع المجمّع الكيميائي التونسي، غنّوش، ڨابس

ڨابس: مدينة تُجرّ بعنفٍ نحو الفناء

في الجنوب الشرقي من تراب تونس الخضراء، مدينةٌ حُبست في سجن رماديّ قاتم قاتل، ينهشها السمّ منذ أكثر من نصف قرن. ڨابس، التي كانت يومًا واحة بحرية تستريح في طيف من النعيم، معجزة طبيعيّة بين الصحراء والبحر، تحوّلت إلى سجن مفتوح.
كلّ موجة تضرب شاطئ « شطّ السلام » لم تعد تأتي محمّلة برائحة البحر، بل بغصّة الفوسفوجيبس، ذلك الطين السامّ الذي يُسكب منذ أكثر من نصف قرن في حضن المتوسط. أكثر من خمسين عامًا والمدينة محاصرة بالدخان والرماد. أكثر من خمسين عامًا والمصانع تنفث في الهواء سمومها، وتغمر في الماء رفات البحر، حتى صار الشاطئ مقبرة للأحياء قبل أن يكون موطنًا للأسماك.
هكذا يعيش الناس في « غنّوش »: بين بحرٍ ميت وهواءٍ سامّ، بين وعودٍ سياسية لا تنتهي وواقعٍ يُنذر بالموت.

مقبرة مكشوفة وسماء بلا هواء: قلب المدينة ينبض بالاختناق

 يقبع « المجمع الكيميائي التونسي » في منطقة حيويّة على السّاحل الرّابط بين مدينة ڨابس ومدينة غنّوش، على ضفاف شاطئ سيدي عبد السّلام أو كما يعرف عند « القوابسيّة » ب »شاطئ السّلام » الذي، ولسخرية القدر، صار معقلًا للحرب ضدّ الحياة بشتّى أنواعها. السموم تراكمت، الطحالب اختنقت، الشعاب تلاشت، والأسماك التي كانت مصدر رزق آلاف العائلات اختفت.
وفقًا لدراسة أُنجزت في مارس 2018 من قبل الاتحاد الأوروبي، يتسبّب المجمع الكيميائي التونسي في 95% من التلوث الجوي بالمدينة. ومن جهتها، صنّفت منظمة الأمم المتحدة (البرنامج الأممي للبيئة) ولاية ڨابس كأحد « البؤر الساخنة للتلوث » في منطقة البحر الأبيض المتوسط. الدراسات العلمية تؤكد وجود معادن ثقيلة وإشعاعات طبيعية في النفايات الصناعية، لكن السلطات تواصل دفن رأسها في الرمال. العلم يضع أرقامه الدقيقة، لكن عيون أهل ڨابس كانت الشاهد الأول: البحر الذي كان معيلهم صار غريبًا عنهم، أسود اللون، مالح الدخان.
صياد يُدعَى صلاح الوردي يقول إنّ قاربه لم يعد يعرف من أين يبدأ رحلته البحرية: لا سمك، لا غداء، لا ربح.

اليوم، حين يقف أحد أبناء ڨابس على الشاطئ، لا يرى زرقةً تنعش الرّوح بل سوادًا كثيفًا قاتمًا، ولا يسمع هدير البحر بل أنينًا متقطّعًا. ذلك المكان الذي كان يُسمّى « شطّ السلام » صار شاهدًا على جريمة جماعية ارتُكبت ببطءٍ وبتواطؤ رسمي.

لم يتوقف الأمر عند البحر، فالمصانع الجاثمة على الساحل جعلت من الهواء نفسه عدوًّا. النّاظر إلى السّماء لا يرى زرقتها، فبينه وبين الطبيعة حجاب، غشاء أصفر من الإفرازات الكيميائية، وسحب من الغازات تحمل في هبّاتها وباءات وأمراض مزمنة.
تقارير طبية متفرقة وشهادات الأهالي تتحدث عن أعداد متزايدة من حالات الربو والسرطان والحساسية التنفسية، خاصة بين الأطفال. تدهور المياه والتربة والطبقات الجوفية وتهديد التنوع البيولوجي… كثيرة هي الأوجاع التي يندّد بها الأهالي.
يقولون إنهم يعيشون موتًا بطيئًا. بعضهم يُقسم أن المرض صار ضيف كل بيت، وأنّ الحزن صار خبزهم اليومي. أما العمّال في مصانع « المجمّع الكيميائي التونسي » فهم شهود وضحايا في آن واحد: يعملون بين أبخرة خانقة، ويعودون إلى بيوتهم محمّلين بما يكفي من السموم ليتقاسمها أطفالهم.

في شهادات من تقارير تعود إلى جانفي 2019، تحدّث أهالي المنطقة بألم بعد أن واجهوا موجة من الاختناق إثر تصاعد دخان برتقاليّ كثيف من إحدى مداخن المجمع الكيميائي:
«داخل المصنع، لا أرى زميلي إذا كان يبعد مترًا واحدًا، الدخان كثيف، يُقحمنا فيه بلا رحمة، تُغلقُ الأبواب لكنها لا تمنع السموم»، يتذكّر عامل يُدعَى هشام، من موظفي المجمع الكيميائي التونسي، أيامًا لا تُنسى من الاختناق المستمر.
«لقد تركتُ منزلي خوفًا على صحّة أولادي. حتى بعد الانتقال، الرائحة تدخل من الفتحات، من الشرفات، تلتصق بالجلد والملابس، لا مأوى من هذا الدخان»، تقول فاطمة، قاطنة في أحياء بجوار المصنع. «نحن أشبه بالأموات الأحياء بسبب التلوث، يكفي أن تنظر إلى حالة وجوهنا.»

في ليلة الثلاثاء 9 سبتمبر 2025، أكثر من ثلاثين شخصًا في غنّوش نقلوا إلى المركز الصحي القريب وهم مختنقون، أطفال وكبار. الغازات انبعثت فجأة من المنطقة الصناعية، اختلطت مع الليل فابتلّت الديار بالهلع والصمت.
تكرّر المشهد مساء الأربعاء 10 سبتمبر، حيث تعرّض ستة آخرون من السكّان للاختناق واضطرّوا لتلقّي الإسعافات. الأدهى والأمرّ أن مثل هذه الحوادث ليست بالغريبة، خاصّة على سكّان « غنّوش » وأجوارها.

تحرّك المجتمع المدني في ضلّ غياب الإجراءات

 أمام هذا الوضع، قرّر أهالي ڨابس، وخصوصًا فئة الشباب، الوقوف في وجه هذا العملاق الصناعي. فمنذ ما يقارب عشر سنوات، ينظّم حراك « أوقفوا التلوث – Stop Pollution » إلى جانب حركات مدنية أخرى مسيرات واحتجاجات بشكل منتظم، يجتمع فيها في كل مرة مئات المواطنين.

في وجه هذه الكارثة، لا يعلو صوت المسؤولين إلا بوعدٍ جديد مؤجّل. منذ عقود، يتكرر الخطاب ذاته: وعود بترحيل المصانع بعيدًا عن الساحل، أو بإنشاء محطات للمعالجة. لكن البحر ما يزال يستقبل نفاياته كل يوم، والسماء ما تزال محروقة بالغازات. السلطات تصف النشاط بأنه ضرورة وطنية، الصناعة جزء من اقتصاد الدولة، والعمال جزءٌ من البقاء الاقتصادي. وبعض الجهات الرّسمية تقول إنّ الدراسات التي أجرتها وزارة الصحة لا تربط بشكل قطعي بين التلوث و الأمراض كالسرطان.

أي معنى للتنمية حين يكون ثمنها موت الناس؟ أي فخر بالاقتصاد الوطني إذا كان يُبنى على رفات الأطفال؟ صمت المسؤولين لم يعد تقاعسًا عابرًا، بل صار شراكة صريحة في الجريمة.

في 29 جوان 2017، أقرّ مجلس وزاري قرارًا بات من المفترض أن يُنفَّذ فورًا: وقف تفريغ الفوسفوجيبس في البحر، غلق الوحدات الأكثر تلويثًا في « المجمّع الكيميائي التونسي »، ومحاربة كل أشكال التلوث الناتجة عن النشاط الصناعي. لكن القرار بقي بلا أثر على الأرض. المحاكمات والمطالبات بإنفاذه تكدّست، ولجان التحقيق توقّفت منذ سنوات، والجهات المختصة تبدّل الوعود لكنها لا تنزل إلى التنفيذ.

الأسوأ أنّ من يرفع صوته من المجتمع المدني يواجه أحيانًا بالمحاكمات والضغط، وكأنّ المطالبة بالحياة صارت جريمة، وكأنّ المطالبة بالهواء النظيف ليس حقا مشروعا.

هكذا تتشكل لنا الصورة كاملة: الأكسجين الذي يُبقي اقتصادًا عليلًا على قيد الحياة، يُسحب قسرًا من صدور آلاف المواطنين القاطنين في محيط « مجمّع الموت »، كما فضّلوا تسميته. وحين تصرخ المدينة طلبًا للحياة وتُقابل بالصمت، فإنّ الجريمة لم تعد مجرد تلوث صناعي، بل تقاعس يمسّ حق المواطن في البقاء.

ڨابس… جرح الوطن المفتوح

 أطفالٌ يتدرّسون وسط الرائحة والغاز، أمّ تنتظر بحسرة خبر وفاة ابنها، مزارع يخسر أرضه بسبب الملوحة والمواد السامة التي تغمر التربة، صياد لا يجد سمكة ليطعم عائلته، عطشٌ للهواء النظيف لا يُجد له دواء.

كلّ هذه المعاناة لا تُحرّك المسؤولين بما يكفي. طالبت منظمات مدنية وأهالي محليون بإغلاق هذه الوحدات فورًا أو نقلها بعيدًا، لكنها تلقت وعدًا جديدًا بتنفيذ تدريجي « بحلول عام 2030 » لمشروع « مدينة صناعية متكاملة ». الرئيس نفسه أمر في مارس 2025: إيجاد حل دائم للفوسفوجيبس، تنظيف الاستراتيجية، استخدام مياه معالجة بدل مياه صالحة للشرب في عمليات الغسل، لكن لا دلائل ميدانية بأنّ التغيير حدث بشكل فعلي حتى الآن.

ما يحدث في ڨابس ليس شأنًا محليًا، بل عجزًا وطنيًّا. هذه المدينة التي كان يمكن أن تكون رئة تونس البحرية تحوّلت إلى مختبر مفتوح للتلوث والإهمال. تعيش بين الرؤية المشرقة لحق الحياة وبين الظلام العملي للتقاعس.

التاريخ سيكتب أنّ البحر قُتل هنا عمدًا، وأنّ الناس تُركوا يواجهون المرض بصمت، وأنّ المسؤولين صمتوا، أو ساهموا، أو تواطؤوا بالصمت.

بقلم: إياد بنسليمان

Share your thoughts

Continue Reading
1 Comment

1 Comment

  1. Avatar

    zoritoler imol

    9 novembre 2025 at 20 h 23 min

    Some genuinely interesting information, well written and broadly user friendly.

Leave a Reply

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

Société

Future shockwaves: Student Anxiety in the Modern Academy

insatpress

Published

on

[simplicity-save-for-later]

By

As a child , I once believed that my life would fall perfectly into place by the age of 22, like a well-structured story.I imagined that sense of fulfilment with every dream being fulfilled and every vision embodying a happy ending peeking through the horizon.”Dream big” they said, but I never thought , and I bet you didn’t either,that the cost of dreaming big is worrying more,spending sleepless nights fearing the perfect life you once imagined slipping away.So are we doomed forever ?Is this the path we are forever bound to walk, or is there any other way ?

Looking from afar,the unknown will surely look like a deep , pitch dark hole , filled with your worst fears that fuel your anxiety and self doubt.In that case,an “innocent” scroll on linkedIn will send your body into a depressive spiral.Comparing achievements, you’ll feel lost in your own. The weight of it all will give you the illusion of being a failure in comparison.You’ll have this haunting pain of knowing that “you can always do better academically ” which never seems to fade.This quiet sting of “almost” is ,in the light of absolute clarity, soul-daunting.

Amidst it all, we, as humans , tend to shed light on our negative thoughts , feeding our minds utter nonsense to feel as if we have control over our lives.Truth is,no amount of anticipating the future is going to make it less “scary”.Simply put,this “scary” aspect of the future is what makes life worth living .It offers you to perceive life from a whole different angle.By its virtue,you’ll wake up every day eager to learn more.That, by itself will make you on standby to face any challenges you encounter along the way.Peace will settle in once you realize at heart that you did everything you could and the future lies beyond our grasp.And when the road turns steep,I want you to remember that your parents are already beyond proud of your efforts and dedication .Thus, that grade does not define you; you are far more.

In conclusion,we tend to stress over academic results because they hold significant importance and value in our lives.We are so fuelled by the constant urge to meet the expectations that we often lean towards measuring our worth by our failed courses.When that happens i want you to remember that academic results are one chapter in a much larger story,and it’s up to you to make that story a joyful one.

 

Written by Ayette Aloui

.

Share your thoughts

Continue Reading

Made with ❤ at INSAT - Copyrights © 2019, Insat Press