Connect with us

خواطر

موجة الحياة

insatpress

Published

on

[simplicity-save-for-later]

أليس غريبًا، أيّها السّادة، كيف تتلاشى الحدود حين يبتلع الليل السماء؟ يختلط الوهم بالحقيقة، و يبدو الكون كله وكأنه يحتضر تحت وطأة السكون

جلستُ، على شفا الرمال، أحدّق في الأبعاد، حيث يحترق الامتداد الأخير للنور بين طيّات رداء الظلام، تاركًا خلفه خطًّا ضبابيًّا يتلاشى فيه المعنى وتنصهر الذات بين السماء النيلية والبحر الأزرق

لحظةٌ كهذه، عزيزي القارئ، تترك المرء بين عالمين. بين هوةٍ لا تُدرك، وسماءٍ لا تُطال، حيث كل ما ظننّاه يقينًا يصبح ضربًا من الاحتمالات

فلو كنت في حضرة ملكوت الأحلام لكنت بدأت بالفعل بالضياع في عالم الجمال، أتفانى في حبك أنسجة الخيال، أرسم لوحات بين شرايين النجوم و أراقص جلالة قمر ليلة النصف

ولكن عندما ينظر ملاك الحقيقة وراء زرقة عيناي، فاتحا بوابات وعيي ليحطم الجدار ويهتدي طريقه إلى سراديب روحي، تتبعثر صفحات كتابي فأجد نفسي عاريا، تغمرني الأمواج فانساب مع بعضها و تهزمني إحداها و أتجنب أخرى

كل موجة تحمل في طيّاتها عوالم لا حصر لها، مزيجًا من الآمال والانكسارات، من المنارات التي تدلّنا إلى بر الأمان، إلى الدواميس التي تبتلعنا في أحشائها، كل واحدة منها تشكّل قدرنا بما تحمله من وعود وآلام، من انتصاراتٍ مرّة وخيباتٍ مدمّرة

الأمواج، هذه الأمواج… ماذا تكون إن لم تكن الزمن نفسه؟ ألا تتالى كالأيام؟ كالأحداث؟ كالأشخاص؟

يرى الجميع عادة كيف تأتي متواترة، هادئة و صاخبة، مبتسمة و عابسة، خشنة و ناعمة. ينفطر لها القلب من فرط السعادة، وتفيض العيون بعبرات الهزيمة حين تجرف معها ما لا يُقاوَم

ولكنهم يغفلون عن رحلتها الخفيّة من خلالك، حيث تمضي عبر المسامات، تتغلغل في الشرايين، وتبقى تلك الأمواج تخلف رعشةً من ذكرياتها، وتترك في نسيج الروح ندبةً لن ينجح الزمن في محوها، مهما طال أو قسى

في لحظات التلاشي، حتى وإن بدأت بالانحسارعلى شاطئك فإنّ بصماتها تترسّخ فيك، فتظل هناك – في نسيج اللحظة، في ارتعاشة الضوء على صفحة الماء، في رائحة الهواء المشبع بالحنين، في طعم الملح على الشفاه

أليس في هذا، أيها السّائرون في دروب الحياة، جوهر الوجود؟ هذا المدّ والجزر الذي يعصف بنا دون أن نتمكن من فهمه؟ أليست حياتنا امتدادًا له؟ في النهاية، لا يبقى سوى الأثر الذي تتركه كل موجةٍ علينا

لذا، فإنّ أمواج الحياة لا تزول، بل تجتاح الوجود، تغمره بحتميتها، تحتضن الزمن في انحناءتها الأخيرة، ثم تتحطم لا في الأفق البعيد، بل على شاطئ الروح ذاته، حيث يلتقي الرمل بالماء، حيث تنحسر الأشياء.. لكنها حتما لا تزول

ومع ذلك، فإنني لا أبتغي سوى أن تغمرني لُجّة كاناغاوا(1) … أن أترك نفسي لموجةٍ أخيرة لا تنحسر، تقتلعني من انتظارٍ بلا نهاية، وتجرفني إلى حيث لا زمن سوى المدّ، ولا ذاكرة سوى العناق الأزلي بين البحر والرمل

لذا، أيّها السّادة، أنا لا أحنّ لوهج يُبهر العين، بل إلى سيمفونية مكتملة، تُعزف على إيقاع المدّ والجزر، كل تفصيلة فيها تحمل نغمة متفردة لا تُشبه غيرها. نادرة، لا لأنها أرادت أن تكون كذلك، بل لأن الخالق جعلها نغمة منفصلة عن بقية العالم، قطعة فنية لم تُخلق لتُكرر.

أتمنى ألّا تكون موجتي الأخيرة عابرة، ألّا تأتي وأنا في غفلة، ألّا تلامسني كهمس الريح ثم تنحسر قبل أن أذوب في لُجّتها، قبل أن أُصبح جزءًا من مداها، قبل أن تُنهي انتظاري

 

(1): The Great Wave off Kanagawa by Katsushika Hokusai

 

بقلم ايياد بن سليمان

Share your thoughts

Continue Reading

خواطر

مذكّرات يوم لم يولد

insatpress

Published

on

[simplicity-save-for-later]

By

ء 1جانفي 1977

إن المذكرات عادة تحتوي تواريخ صحيحة و كتابات أشد صحة من التاريخ في حد ذاته فهي مشاعر كاتبها و أفكاره تستحي حبرا على الورق ..ء

لكني في مذكراتي هذه إخترت أن لا أكتب سوى الأكاذيب لذلك اخترت تاريخا ليس بتاريخ اليوم و اخترت أن أكتب عن يومي لا كما كان بل كما أردته أن يكون، هذه هي مذكراتي الكاذبة.ء

لعل أجمل ما يمكن أن يبدأ به الرجل يومه هو كوب قهوة سوداء لا سكر فيها.. فأما القهوة فهي خمر الصالحين و أم السواد فهو يليق بالرجال و أما السكر فلا شيء ألذ لي و أطيب لقلبي من أن أحتسي القهوة مرة و أنا أتذوق حلاوة عيناها ..ء

كان الصباح مشرقا .. لا سحب و لا أمطار .. و أكاد أقسم أن الدفء قد تسلل من شبابيك الدار و أخذ يدغدغ أناملي . إنه صباح جميل . كانت تغني -و هي تلف في الدار تمسح الغبار كأنما هي ترقص- موشحا أندلسيا قامت القوافي فيه مقام المجوهرات من اليد فجعل فيه نغما لذيذا ترتاح له النفوس .. و يكاد يكون بلذة صوتها و هو يبعث الحياة في الدار كما يبعث الخالق الروح في مخلوقاته ..ء

إن النهار طويل .. لكنني أتمنى أن يكون أطول حين أكون برفقتها ! بعض الناس مجالستهم دواء للروح، أولئك من يجعلون من نسبيّة الوقت أمرا واقعا ملموسا و محسوسا لا تحده معادلات الفيزياء أو تعقيدات التجارب… ء

من أنا لأخدع نفسي ..ء

كنت أظن أن من المفترض أن أكتب عن يومي .. لكن الكلمات أبت أن تطيعني .. أردت أن أخلق في هذه الجمل واقعا لا بؤس فيه لكنني قضيت الليلة أكتب و قد أخذ منّي البرد مأخذا عظيما .. لم تعد لي القهوة .. بل تفارقنا .. لم يكن اليوم مشمسا بل وكأن الغيوم بُسطت على السماء كبساط من لون رمادي قاتم … لم أسمع أي موشح أندلسي بل كان هزيز الرياح العاتية جل ما سمعت .. قضيت الليلة أكتب لكي أكتشف أن كل ما كتبته هراء أهرب به من

الواقع ربما من الأفضل أن لا أكتب… ربما كان الفراق لنلتقي.ء

بقلم: عطاء مارس

Share your thoughts

Continue Reading

Made with ❤ at INSAT - Copyrights © 2019, Insat Press