اِسْتَقَرَّ مواجها الحائط لا فوضى غرفة تعنيه ولا ضوضاء أفواه تلهيه. وضع قبالته ما يدعوه هو برسالته رسالة خلود وبقاء فنه
مقتدر شاب إختار أن يكتب بقدر من العبثية و الرصانة معا…شرع يكتب و يتغنى بملذات الكلمات ، كلمات لو لم يكن لها وجود لألقى بنفسه في غياهب الغفلة. نقش الكلمات حتى غفا جفناه
تحت صدى صوت بعيد لكنه بقريب،فتح مقتدر عيناه ليجد نفسه تحت سقف ليس مألوف لتجوب عينيه الغرفة،غرفة تكاد تكون قفص ،محكمة بقُضبانٌ من حديد و تولد صقيعا يجمد العروق
سجن ؟ و لما عساي أكون في سجن ؟ هل قتلت نفسا دون ذنب ،أم سرقت نقد دون حق ، ماذا فعلت يداك يا مقتدر لتجد نفسك على هاته الحالة
أنجزت يداك حقا و هذا ما جنيته على نفسك و على نفسي –
إلتفت مقتدر ليجد شابا من العمر تساوى، مديرا برأسه قبالة الحائط
تعددت الأيام منذ آخر لقاء لنا و ليس للأيام بعودة أما تشاركني الرأي –
تنهد مقتدر تنهيدة تكاد تقتلع اللحم من الضلوع
أفرغ وطابك ها أنذا مصغ إليك-
و ماذا أتى بك بعد كل هذه المدة ؟ –
ستعرف ، ستعرف ولو بعد حين. والأن حدثني عن ما بخاطرك –
أنا مقتدر الشاب الذي اتخذ من الكتابة لغته في الحياة, لقد عرفتني منذ سنين يا يقين عرفتني من يوم أدركت انك بحاجة لصديق وعرفت أيضا أنني لم أكن يوما شخصا طليعا بخبايا هذا العالم المديد فلطالما كنت غريبا و لكن لم أكن يوما غريبا عن الشعر حتى كان للكلمات قدرة على إشباع نفسي و محو سيئات فكري المهزوز ولكن عجزت يدي عن كتابة سطر من الشعر و عجز فاهي عن إلقاء فكرة الشعر
شعر ؟ و ماذا تعرف أنت عن الشعر ،إنه حقا ضرب من الجنون, يتحدث عن الشعر و هو ليس بقادر عن الإتيان بسطر منه.و ها أنا ظننتك قد عزفت عن تلك الفكرة
إنني أعرف ما لاتعرفه أنت عن نفسك أنني أتخذه سببا و نتيجة ،مأوى و مسرى لذاتي فإن خانتني يوما ذاكرتي سأكتب الشعر لعله يكون سببا لشفائي و إن لم يكن كذلك إذن فهو سبب دائي
يا لتفاهة الكيان، هل تظن أنه مازال هناك من الناس من يهتم مقدار ذرة بالشعر و بمن يكتبه حتى. لم يعد للناس حاجة في قراءته فزَمَن وجوده قد وَلَّى ومضى. تَخَلَّ عن كبريائك و جِدْ لنفسك منفذا لروحك. ها قد بان الصبح و بانت معه حضارة .. حضارة لم يعد للشعر مكان فيها .وها أنت ستحيا في سجن لامَفَرّ لك منه
لا للشاعر من رغبة في إلقاء كلمات دون كيان و لا للإنسان قدرة على الكلام دون لسان. لو كان الأمرعلى هذه الحال لما تَخَلَّى أبو تمام عن حياكة الثياب و اتَّبعَ حياكة الشعر حتى كان عمق كلماته نكرانا للناس وما كنا لندرك قيمة الليل والنهار ، الظلمة و النور لو لم يفقد المعري بصره في الصغر .و لو لم تتمرد الروح لما حظينا بالأرواح المتمردة ، و لوكنت ملاكا لما أدركت أجنحتي المتكسرة، سأغدو نبيا ليكون الشعر رسالتي فلا لشعري حدود مكان ولا للشعر زمن زوال والآن دع نفسي تستريح لعلي أرى في هذا الليل بعض السلام
أطبق يقين فاهه كالمصيدة ولم يعد لكلامه صدى حتى في الإدراك. في حين ذلك أخرج مقتدر بعض الترنيمات قبل أن يفصح عن بعض الأبيات
قَالُوا فِيمَا كتبتُ مَهَانَةٌ وتَصْغِيرًا
لَوْ سَمِعْتَهُ الكَلِمَاتُ لَكَانَتْ كَالهَشِيمِ
بما يَقُولُونَ جَاهِلُونَ غَيْرُ مُدْرِكِينَ
فِي مَهَبِّ الرِّيحِ يهتدي العَاقِلُ الْمُبِينِ
أَيُعْقَلُ أن تَخْضَعَ لِوَلاءِ حَديثِهِم
شِعْرٌ ضَنُّوا أَنَّهُ زَائِل لَا سَبِيلَ
نَدَى عَلَى وَرَقٍ وخَلِيطٌ نَسِيمٍ عَلِيلٍ
وهو بِقُدْرَةٍ قَادِرٍ بَاقٍ لَيْسَ لَهُ بِبَدِيلٍ
يا هذا لقد مات الشعر مع أسياده وماذا لك أنت لتكتب فيه , لقد حَكَوْا عن الحب و الفراق ,عن البهجة و تقطع الأفئدة كتبوا ، حتى الشعر بذاته ألقوا فيه شعرا و هاهنا أنت تحاول ممارسة شغف سبقوك فيه فلا مكانة لك فيه و ليس له مكانة لا في حاضرنا ولا في مستقبلنا. تغيرت ملامح مقتدر و ساد السواد في عينه
و كيف يموت الشعر مع أسياده و هل للشعر أسياد من أساس ألم يكن الشعر سيدا حتى تلهف الخلق لخدمته. لقد خلقت النفس لتحيا قبل موتها و خلقت الجوارح لتعمل قبل فنائها فلحركة جوارحي إحياء لنفسي و للشعر بركة لجوارحي
تَلَامَسَتْ أَنْامِلُ أَصَابِعِي القَلَم
حتى تَحَرَّكَ في فؤادي الأَمَل
أَمَلٌ جَعَلَ من ذَاتِي عَبْدًا
وجَعَلَ مِنْ الشعر لِي سَيِّدًا
سَخَّرْتُ المَشَاعِرُ طُّقُوسا
و مَارَسْتُ بِهَا الأُصُول
والان لك أن تصمت فلم يعد في القول فقه ولم يعد في كلامك منطق
خَيَّمَ صمت ثقيل في الغرفة يكاد يكون أبَدِيٌّ فكلاهما اِعْتادَ الجدال ولكن لَمْ يَعْتَدْ أحدهما عن إنهاء الجدال أبحر كلاهما في مخيلته و رسم على امتدادها نعيمه المنتظر, أبحرا حتى غفا جفنهما. فتح مقتدر عيناه ليجد نفسه في كرسيه المعتاد قبالة حائطه, الذي اختاره ركن كتابة قصته التي لم تعرف بعد متعه البداية و لا ألم النهاية , تناول قلمه الحبري وشرع في كتابة أول سطر من شعره الأبدي تحت عنوان » هم السابقون ونحن اللاحقون
بقلم نور الهدى المالكي
Share your thoughts