.الفصل 5 : نزيف غابات أستراليا

لطالما أخذني الشوق و أسرني غموض تلك القارة المنفية وراء البحار و بعد صراع مع عقلي و روح الرحالة فيّ، قرّرت أن أسافر لزمن بعيد، لماض دموي أعيش بين طيّاته تلك الأحداث التي نسجت منها أضخم الأفلام. بب

كان الواقع في تلك الفترة مزبلةً لا ينقصها إلا النّفايات و من كان يدري أنه خُلق لكي يكون وحش الروايات..رأيت – في ما رواه لي المحقق – كم كانت كمية البأس العائلية التي كان يعيشها رفقة ثلاثة عشر أخا وأختا نشأوا على النهب و السرقة قصد إرضاء جوع مادي تمكن منهم و جوع عاطفي مافتئ يؤرقهم.  و هكذا تبنى إيفان ميلات وحشيّةِ و قساوة والديه، هذا ما أكده جيرانه و أشخاص سلط عليهم سخطه.ي

كان يقضي عطلته السنوية و أعياده في السجن ثم يخرج ليرتكب تجاوزات أخرى ليعود إليه.وكأنّه أدمن السّجن تماما، لكنه لا يطيق الإستقرار فيه…مراهقة إجرامية بامتياز وكثير من برودة الدم و الإستفزاز . كان قد أكمل من عمره ما يزيد عن الربع قرن من الجنح والسرقات والجرائم الصغيرة و النزوات إلى أن تورّط إيفان في قضية الاعتداء على فتاتين متجولتين ..ب

محامٍ متمرّس ..إنكار مجحفٌ..تسقط التّهمة و ترى إيفان يصول و يجول في أنحاء البلدة – في تلك الفترة ما كنت أعلم أنه سيكون القاتل الأكثر دموية في تاريخ أستراليا – قالها المحقّق و قد إجتمعت الصّور و الأدلّة في عقله الباطني و إنعكست شبه حسرة مخلوطة بالحماس في عينيه.ي

1989 كانت أول خطوات إيفان نحو إبداعاته الإجرامية وإكتشاف مواهبه الإستراتيجية ، كانا تائهين في غابة من غابات جنوب سيدني حيث إستدرجهما، و قتلهما بوحشية كشفتها جثث الضحيتين .ي

سنوات من إلتقاط الرحّالة و إحتجازهم و ممارسة أشد أنواع التعذيب عليهم..عشرات الاختفاءات ..آلاف البلاغات عن المفقودين ..لغز أفزع المسافرين .. »مرّت السنين و نحن بصدد رصد مقابر جماعية في غابات متشابهة متقاربة تَشَاركتْ رائحة الموت : رؤوس مفصولة عن الجثث منتشرة تتشارك وحشية القاتل و تقنعنا بقدرته اللاطبيعية على الإجرام « ي

جرت التحريات و بدأت أطراف الحكايات بالإلتقاء وعثر على كل الجثث  و قبض على إيفان سنة 1994 بتهمة قتل سبعة من الرحالة – و ما خفي كان أعظم- وحُوكم بالسجن مدى الحياة ولكن العدالة الإنسانية و الكونية لم تكتفي بالسجن عقابا فعذّبه المرض و أرهقه ليموت السّفاح الذي سقى غابات أستراليا دماً عن عمر يناهز 74 عاما ،رحل و لم يعترف..رحل و رحلت معه كل ألغاز جرائمه و دوافعها .ؤ

كيف يمكن للإنسان أن يكون إيفان ميلات ؟ كيف نفقد الرحمة و نزرع البغض كيف ننكرُ الحقيقة و نحيّ الكذب؟ كيف ننعى الخير و نلد الشر؟ 

إيفان ميلات تبنى قانون الغاب. قانونٌ لا يسري إلا في عالم الحيوان .لا أعلم هل هو سفاح أم ضحية و لكني لم أشعر أن النهاية أليمة بقدر ما أحسست أن العدالة الإلهية حتمية…ء 

أرهقتني  مسافةُ الرّحلة  وأحاسيسها ..سأنام لأسترجاع حبّي للسفر و الحكايات و أنسى ما نسجته دماء الضحايا من خيالات و سيناريوهات. ؤ

كتابة : رنيم العڨب